الإخوان المسلمون في سوريا- بين تحديات الماضي ومتطلبات المستقبل.

المؤلف: أحمد موفق زيدان08.24.2025
الإخوان المسلمون في سوريا- بين تحديات الماضي ومتطلبات المستقبل.

نشأت في ريعان شبابي على أفكار جماعة الإخوان المسلمين، ولا زلت أستحضر بتوق كبير تلك الحقبة الزمنية الزاهية التي قضيتها معهم، مناضلاً جسوراً ومكافحاً صلباً ومهاجراً عنيداً ضد حكم الطاغية حافظ الأسد. لقد لاحقتني يد الظلم وأجبرتني على الهجرة، إلا أنني ثابرت وكافحت ببسالة، حتى منّ الله عليّ وعلى إخواني الأعزاء بتحطيم شوكة عصابة الأسدين الغاشمة في الثامن من ديسمبر/كانون الأول المنصرم، مما أنقذ العالم بأسره من أوزارهم وشرورهم المستحكمة.

فكم من موبقات وجرائم شنيعة اقترفوها بحق هذا الشعب الأبيّ، بتحويلهم ربوع الوطن إلى معتقلات رهيبة كسجون صيدنايا وتدمر سيئة الصيت، فضلاً عن سفكهم للدماء وتهجيرهم القسري لأبنائه، وذلك منذ ستينيات القرن الماضي، والتي بلغت ذروتها مع انطلاقة ثورة الحرية والكرامة عام 2011. وعلى الصعيد الخارجي، سعى هذا النظام الفاسد جاهداً إلى إغراق دول العالم بموجات متدفقة من المهاجرين اليائسين، وبسموم الكبتاغون الفتاكة التي غدت سلعة تصديرية مشؤومة، هذا بالإضافة إلى استقباله لميليشيات طائفية بغيضة، بهدف ذبح السوريين الأبرياء، وتهديد أمن الجوار الأقرب والأبعد على حد سواء.

لا أسارع اليوم إلى الكتابة لأني أصبحت فجأة مستشاراً لدى الرئيس السوري، بل لأنني مدفوع بقناعة راسخة، ترسخت في أعماقي بعد دراسات مستفيضة ونقاشات معمقة ومقاربات دقيقة لأشباه ونظائر في عالم الممارسة السياسية. فكما أن اللغة كائن حي نابض بالحياة، فالأفكار والأطر والتنظيمات من باب أولى هي أيضاً كائنات حية متفاعلة، نظراً لارتباطها الوثيق بما يخدم الإنسان ويؤثر تأثيراً بالغاً في أفكاره ونظرياته.

وعليه، فإن مجاراة العصر ومواكبة تطوراته المتسارعة وتحديثاته المستمرة، هو أمر بالغ الأهمية لكل سياسي فاعل في الحيز الاجتماعي، وإلا فإنه سيغدو حينها نشازاً مؤذياً، وخارجاً عن نطاق المألوف.

منذ لحظة الانتصار المجلجل، الذي قلّما شهد السوريون نصراً وفتحاً مماثلاً له في تاريخهم الحافل بالأحداث، سارعت كافة الكيانات السورية، بدءاً من الائتلاف الوطني السوري لقوى المعارضة، مروراً بالمجلس الإسلامي السوري، وصولاً إلى الفصائل العسكرية والسياسية والمجالس المحلية، وغيرها من التشكيلات، إلى حل نفسها طواعية، ووضع مقدراتها وإمكاناتها، تحت تصرف القيادة السورية الجديدة.

فقد صدح الجميع بصوت واحد مدوٍّ ونغمة متفقة، مؤكدين دعمهم المطلق لهذه الدولة الوليدة، من أجل العبور بسوريا إلى مرحلة من الاستقرار الحقيقي والواقعي والفعلي، خاصة في ظل كثرة المتربصين والطامعين، سواء من الداخل أو الخارج.

في مرحلة ما من حياتي، انتميت إلى جماعة الإخوان المسلمين، غير أنني ظللت على الدوام وفياً لتاريخي وللأمانة الفكرية، ومنتمياً إلى جماعة الأستاذ الجليل عصام العطار – رحمه الله. ولا تزال جماعة الإخوان متمسكة بتنظيمها وحزبها وتسعى جاهدة إلى الاستمرار فيهما.

وبرأيي المتواضع، ومع كامل احترامي لإخواني وأصدقائي في التنظيم، فإن حل التنظيم اليوم، على غرار ما فعلته المكونات الأخرى، سيخدم مصلحة البلاد العليا، والتي هي رأسمالنا جميعاً، وهدفنا الأسمى الذي نسعى إليه.

يعلم القاصي والداني أن أصغر فرد في جماعة الإخوان المسلمين، قد يكون في بداية عقده السابع، باستثناء أبنائهم بطبيعة الحال. والفجوة العمرية الهائلة التي يعانون منها اليوم، تعود بشكل قاطع، إلى حرمانهم من ممارسة العمل السياسي في سوريا، طوال تلك الفترة العصيبة، نتيجة الغياب القسري الذي مُورس بحقهم.

وقد تسبب إصرارهم المستميت على التمسك بقرار عدم حل الجماعة، في حرمان شبابهم المتحمس من المشاركة الفعالة في بناء الدولة، طالما أن المحيط الأقرب والأبعد على خلاف معهم، ومتخوف أو متوجس منهم، فما بالك بالتقرب إليهم، الأمر الذي يفقد الدولة السورية الجديدة طاقات وخبرات ومهارات قيّمة لا تقدر بثمن.

غياب الإخوان المسلمين عن الساحة السورية لفترة زمنية طويلة تمتد لحوالي نصف قرن، ألحق ضرراً بالغاً بالتنظيم، ليس من حيث تعظيم العمل التنظيمي وتوسعته فحسب، وإنما هذا الغياب الطويل جعل التنظيم يتآكل تدريجياً في ظل فيروس البعث الخبيث المنتشر في أوساط الشرائح السورية، والذي عمل على تشويه صورة الإخوان، فكان ترويجهم لمصطلح النظام المعتاد "الإخوانجي" لإشاعة كل ما هو سلبي عن الإخوان ومؤيديهم، كل هذا نتيجة غياب سرديتهم المدافعة عن حقوقهم، وحضور سردية النظام المهيمنة.

لعل إصرار الإخوان على البقاء معزولين عن التيار العام، مع تصريحات متفرقة هنا وهناك تلمح إلى عدم رضاهم عما يجري، يزيد من الهوة والتباعد مع الشارع المؤيد للحكومة، هذه الحكومة التي أنجزت عملاً تاريخياً جباراً، تمثل في اجتثاث عصابة استبدادية جاثمة على السلطة منذ ستين عاماً، ومدعومة من قوى إقليمية ودولية نافذة.

لقد سبق أن حل تنظيم الإخوان المسلمين في سوريا نفسه، حينما وضع الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر جملة من الشروط التعجيزية لوحدته مع سوريا، وكان من ضمنها حل الأحزاب السياسية، فاستجاب الإخوان السوريون لهذا الشرط الصارم، انصياعاً لرغبة الوحدة وأشواقها، في حين كان عبدالناصر نفسه يسحق إخوان مصر بوحشية، ويعلق على أعواد مشانقه مؤسسي التنظيم الدولي الذي كان يقود فرع إخوان سوريا.

وحينما سألت المراقب العام السابق للإخوان، الأستاذ القدير عصام العطار- رحمه الله- عن تلك الفترة الحرجة، قال لي بأسى: (لقد استجبنا لنداء الوحدة، والتي هي أمل الإخوان والشعوب، متجاوزين آلام إعدامات إخواننا في مصر، من أجل تحقيق حلم الوحدة المنشود).

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح الآن: هل تلك المرحلة التاريخية كانت أكثر إلحاحاً وأهمية من هذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها سوريا اليوم، وهل دعوة عبدالناصر هي الأولى بالإجابة والسمع والطاعة من حاجة الرئيس السوري أحمد الشرع، لتثبيت أركان حكم دفع في سبيله مليون شهيد وأربعة عشر مليون مهجر، وهو يعيش ظروفاً داخلية وإقليمية ودولية استثنائية غير مسبوقة، ومن الأولى بتثبيت الحكم، أبناء سوريا المخلصون وتنظيماتها الوطنية، أم دول إقليمية ودولية هبت لتقديم الدعم لهذه الدولة الوليدة؟!

كان الدكتور حسن الترابي- رحمه الله- أول المنشقين عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث أسس الجبهة الإسلامية القومية، مما جعله يحلق في سماء السياسة الرحبة مع إخوانه الذين التحقوا بركب مسيرته، ليتبعه لاحقاً الشيخ الفاضل راشد الغنوشي – فرج الله كربته- حين أسس جبهة النهضة، وتخلى عن الإخوان المسلمين تنظيماً وهيكلاً، والأمر ذاته حدث مع تنظيم الإخوان المسلمين في الأردن، حين لجأوا إلى أسلوب جديد ابتدعوه، فأسسوا جبهة العمل الإسلامي الخاصة بالعمل السياسي والمشاركة في الانتخابات والسلطة.

وعلى الضفة الغربية، كانت حركة حماس تتخلى تدريجياً عن عباءة الإخوان المسلمين، لتشق طريقها بنفسها، وتحدد مسارها المستقل، حتى إن الإخوان المسلمين في سوريا، سعوا قبل سنوات مضت لتأسيس حزب "وعد"، لكنه ولد ميتاً قبل أن يبدأ، لأنهم ظلوا أسرى للتاريخ والماضي، أكثر مما هم منفتحون على الحاضر والمستقبل.

كل هذه الشواهد تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك على أن تنظيماً يمتلك أدوات تفكير عتيقة، لا يمكن له أن يشق طريقه بنجاح في عالم السياسة والدعوة المعاصر، خصوصاً وأنه بات يسبح في مواجهة بيئة إقليمية ودولية مكتظة بالعواصف والرياح العاتية التي تتربص به، وتسعى جاهدة إلى اقتلاعه من جذوره.

لقد سبق للإخوان المسلمين في العراق أن حلوا أنفسهم أيضاً، في أيام الشيخ الجليل محمد محمود الصواف- رحمه الله-، ثم هاجر إلى المملكة العربية السعودية، ولا زلت أذكر وهو يسرد لنا تفاصيل تلك المرحلة العصيبة، والأمر نفسه تكرر تحت ظروف مختلفة، حيث حل الإخوان المسلمون أنفسهم في قطر، وفي المغرب العربي رأينا كيف تغير اسم الإخوان المسلمين عدة مرات، حتى وصل حزبهم الجديد إلى منصب رئيس الوزراء.

أما في تركيا، فلم تنطلق الحركة الإسلامية بقيادة الراحل نجم الدين أربكان إلى فضاء سياسي كبير وواسع وثابت، إلا بعد أن قام عبدالله غول ورجب طيب أردوغان وإخوانهما بتأسيس حزب العدالة والتنمية، والوصول بفضل ذلك إلى السلطة في غضون سنوات قليلة، وظلوا فيها عبر صناديق الاقتراع الشعبي منذ عام 2002 وحتى الآن.

لقد تجلى لنا بصورة واضحة، ومن خلال التجربة الإخوانية التي حلت نفسها في هذه الدول، أن معظم من قام بحل نفسه، ومارس العمل السياسي والدعوي بتسميات جديدة، كان أفضل حالاً وأكثر نجاحاً ممن أصر على التمسك بسياسة ديناصورية بالية، محكوم عليها في نظر بعض علماء الجيولوجيا بالاندثار والفناء، طالما أن الديناصور قد عجز عن التأقلم مع الظروف الطبيعية الجديدة، وهو حال تنظيم يرفض رفضاً قاطعاً أن يتأقلم مع الظروف الداخلية والإقليمية والدولية التي تجاوزته.

ما أجهر به اليوم، يهمس به الكثير من شباب الإخوان المسلمين في الجلسات الخاصة المغلقة، وكل ما في الأمر أنني أمتلك الشجاعة الكافية لطرح هذه القضية علناً، تماماً كما فعلت عام 2015، مطالباً بفك الارتباط بين جبهة النصرة، وتنظيم القاعدة العالمي المترامي الأطراف، ونشرت في ذلك مقالاً في صحيفة عربية مرموقة، لأنني كنت أدرك تمام الإدراك حجم الثمن الباهظ والتكلفة الهائلة التي سيدفعها التنظيم إن لم يتحول إلى تنظيم محلي سوري، همه وشغله وهدفه الأساسي هو مواجهة تحديات نظام مجرم مدعوم من قوى إقليمية ودولية، ثم الارتقاء بمستوى معيشة شعبنا الذي عانى ما عاناه لعقود طويلة.

أما رفع الشعارات الرنانة الكبيرة، ودفع ثمنها الفادح بشكل يفوق القدرات والإمكانات المتاحة، وحتى المستطاعات، فهذا ليس من المنطق السليم في شيء، وهو تماماً ما يفعله الإخوان، إذ يعاملهم العالم بأسره وكأنهم أخطبوط ضخم وإمبراطورية عالمية مترامية الأطراف، وخلافة إسلامية تمتد عبر القارات الست، بينما حقيقتهم وواقعهم يُرثى له أشد الرثاء، فالمساكين متمسكون بقصور خيالية وهمية سرابية لا وجود لها على أرض الواقع.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة